كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}.
وهذا في غاية الحسن وذلك من حيث إنه لما قال: {اتبعوا المرسلين} كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين، إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين، أليسوا بمهتدين، فاتبعوهم.
ثم قال تعالى: {وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني} لما قال: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [يس: 21] بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القويم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف: الأولى قوله: {مَالِيَ} أي مالي مانع من جانبي.
إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية: وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: {ومالي} لأنه لما قال: {ومالي} وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال: ما لكم جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، فإن قيل قال الله: {مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] نقول القائل هناك غير مدعو، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال: ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية: قوله: {الذي فَطَرَنِي} إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله: {ومالي} إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى، فقوله: {الذي فَطَرَنِي} ينبىء عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة: قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن تقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنيًا عن البيان رأسًا فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة: اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال: {ومالِيَ لاَ أَعْبُدُ} بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمرًا لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجابًا.
واعلم أن المشهور في قوله: {فَطَرَنِي} خلقني اختراعًا وابتداعًا، والغريب فيه أن يقال: فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] وعلى هذا فقوله: {ومالِيَ لاَ أَعْبُدُ} أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله: {فَاطِرَ السموات} [الأنعام: 14] فنقول قد قيل بأن فاطر السموات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السموات على فطرتها والأول من التفسير أظهر.
وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال: {ادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضًا معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مرارًا فالأول: عابد يعبد الله، لكونه إلهًا مالكًا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني: عابد يعبد الله للنعمة الواصلة إليه والثالث: عابد يعبد الله خوفًا مثال الأول من يخدم الجواد، ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال: {ومالِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه، ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابدًا من القسم الأول فرجوعه إلى الله لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره.
ثم قال تعالى: {أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً} ليتم التوحيد، فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك، فقال: ومالي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله وقال: {أَءَتَّخِذ مِن دُونِهِ} إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله، وفي الآية أيضًا لطائف الأولى: ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر، وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلًا لا أتخذ يصح من السامع أن يقول له لم لا تتخذ فيسأله عن السبب، فإذا قال: أأتخذ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار، كأنه يقول استشرتك فدلني والمستشار يتفكر، فكأنه يقول تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني الثانية: قوله من دونه وهي لطيفة عجيبة: وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله: {الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] بين أن من دونه لا تجوز عبادته فإن عبد غير الله وجب عبادة كل شيء مشارك للمعبود الذي اتخذ غير الله، لأن الكل محتاج مفتقر حادث، فلو قال لا أتخذ آلهة لقيل له ذلك يختلف إن اتخذت إلهًا غير الذي فطرك، ويلزمك عقلًا أن تتخذ آلهة لا حصر لها، وإن كان إلهك ربك وخالقك فلا يجوز أن تتخذ آلهة الثالثة: قوله: {أَءَتَّخِذُ} إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله، ولهذا قال تعالى: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3] وقال: {الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز، وإنما النصارى قالوا: تبنى الله عيسى وسماه ولدًا فقال: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان: 2] ولا يقال قال الله تعالى: {فاتخذه وَكِيلًا} في حق الله تعالى حيث قال: {رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلًا} [المزمل: 9] نقول ذلك أمر متجدد، وذلك لأن الإنسان في أول الأمر يكون قليل الصبر ضعيف القوة، فلا يجوز أن يترك أسباب الدنيا ويقول إني أتوكل فلا يحسن من الواحد منا أن لا يشتغل بأمر أصلًا ويترك أطفاله في ورطة الحاجة ولا يوصل إلى أهله نفقتهم ويجلس في مسجد وقلبه متعلق بعطاء زيد وعمرو، فإذا قوي بالعبادة قلبه ونسي نفسه فضلًا عن غيره وأقبل على عبادة ربه بجميع قلبه وترك الدنيا وأسبابها وفوض أمره إلى الله حينئذٍ يكون من الأبرار الأخيار، فقال الله لرسوله: أنت علمت أن الأمور كلها بيد الله وعرفت الله حق المعرفة وتيقنت أن المشرق والمغرب، وما فيهما وما يقع بينهما بأمر الله، ولا إله يطلب لقضاء الحوائج إلا هو فاتخذه وكيلًا، وفوض جميع أمورك إليه فقد ارتقيت عن درجة من يؤمر بالكسب الحلال وكنت من قبل تتجر في الحلال ومعنى قوله: {فاتخذه وَكِيلًا} أي في جميع أمورك وقوله تعالى: {لاَّ تُغْنِ عَنّي} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون كالوصف كأنه قال: أأتخذ آلهة غير مغنية عند إرادة الرحمن بي ضرًا وثانيهما: أن يكون كلامًا مستأنفًا كأنه قال لا أتخذ من دونه آلهة.
ثم قال تعالى: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّي شفاعتهم شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ} ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضرًا، وكذلك قال تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} [الزمر: 38] ولم يقل إن أراد الله بي ضرًا، نقول الفعل إذا كان متعديًا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم ذهب به وخرج به، ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولًا بحرف فإذا قال القائل مثلًا؟ كيف حال فلان: يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة فإذا قال كيف كرامة الملك؟ يقول: اختصها بزيد فيجعل المسئول مفعولًا بغير حرف لأنه هو المقصود إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء، وليس الضر بمقصود بيانه، كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناءً على إيمانه بحكم وعد الله ويؤيد هذا قوله من قبل {الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جعلها مفعول الإرادة وذكر الضر وقع تبعًا وكذا القول في قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرّ} [الزمر: 38] المقصود بيان أنه يكون كما يريد الله وليس الضر بخصوصه مقصودًا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} [الأحزاب: 17] حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء وهو كالضر والمفعول بحرف هو المكلف، وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلًا له، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصودًا بالذكر لزجرهم، فإن قيل فقد ذكر الله الرحمة أيضًا حيث قال: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] نقول المقصود ذلك، ويدل عليه قوله تعالى: {مِن بَعْدِهِ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 17] وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر، وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بكم نفعًا} [الفتح: 11] فإن الكلام أيضًا مع الكفار وذكر النفع وقع تبعًا لحصر الأمر بالتقسيم، ويدل عليه قوله تعالى: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11] فإنه للتخويف، وهذا كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضلال مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، والمقصود إني على هدى وأنتم في ضلال، ولو قال هكذا لمنع مانع فقال بالتقسيم كذلك هاهنا المقصود الضر واقع بكم ولأجل دفع المانع قال الضر والنفع.
المسألة الثانية:
قال ههنا: {إِن يُرِدْنِ الرحمن} وقال في الزمر: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع هاهنا وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك؟ نقول أما الماضي والمستقبل فإن إن في الشرط تصير الماضي مستقبلًا وذلك لأن المذكور هاهنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: {أَءتَّخِذُ} وقوله: {وَمَالِيَ لاَ أَعْبُدُ} [يس: 22] والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله: {أَفَرَءَيْتُمُ} [الزمر: 38] وكذلك في قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} [الأنعام: 17] لكون المتقدم عليه مذكورًا بصيغة المستقبل وهو قوله: {منْ يُصْرَفْ عَنْهُ} [الأنعام: 16] وقوله: {إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} [الأنعام: 15] والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال صدر منكم التخويف، وهذا ما سبق منكم، وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير، والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران، وأما قوله هناك: {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] فنقول قد ذكرنا أن الأسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن كما قال تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] والله للهيبة والعظمة والرحمن للرأفة والرحمة، وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام} [الزمر: 37] وذكر ما يدل على العظمة ما يدل على العظمة بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض} [العنكبوت: 61] فذكر الاسم الدال على العظمة وقال هاهنا ما يدل على الرحمة بقوله: {الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ} ثم قال تعالى: {لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئًا وَلاَ ينقذون} على ترتيب ما يقع من العقلاء.
ذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولًا فإن قبله إلا يدفع فقال: لا تغن عني شفاعتهم ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه، وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه إن كان نظرًا إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن وإن كان نظرًا إلى إحسانه فهو رحمن، وإن كان نظرًا إلى الخوف فهو يدفع ضره، وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة وغير الله لا يدفع شيئًا إلا إذا أراد الله وإن يرد فلا حاجة إلى دافع.
{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} يعني إن فعلت فأنا ضال ضلالًا بينًا، والمبين مفعل بمعنى فعيل كما جاء عكسه فعيل بمعنى مفعل في قوله أليم أي مؤلم، ويمكن أن يقال ضلال مبين أي مظهور الأمر للناظر والأول هو الصحيح.
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}.
في المخاطب بقوله: {بِرَبِّكُمْ} وجوه أحدها: هم المرسلون، قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل وهو على المرسلين وقال: إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي وثانيها: هم الكفار كأنه لما نصحهم وما نفعهم قال: فأنا آمنت فاسمعون وثالثها: بربكم أيها السامعون فاسمعون على العموم، كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول: يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عملك يريد به كل سامع يسمعه وفي قوله: {فاسمعون} فوائد أحدها: أنه كلام مترو متفكر حيث قال: {فاسمعون} فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر وثانيها: أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها: أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول، يقول القائل نصحته فسمع قولي أي قبله، فإن قلت لم قال من قبل: {ومالِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] وقال ههنا: {آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} ولم يقل آمنت بربي؟ نقول قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر، لأنه لما قال آمنت بربكم ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه ولو قال بربي لعلهم كانوا يقولون كل كافر يقول لي رب وأنا مؤمن بربي، وأما على قولنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان للتوحيد، وذلك لأنه لما قال: {أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} [يس: 22] ثم قال: {آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فهم أنه يقول ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم، بخلاف ما لو قال آمنت بربي فيقول الكافر وأنا أيضًا آمنت بربي ومثل هذا قوله تعالى: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15].
ثم قال تعالى: {قِيلَ ادخل الجنة} فيه وجهان:
أحدهما: أنه قتل ثم قيل له ادخل الجنة بعد القتل.
وثانيهما: قيل ادخل الجنة عقيب قوله: {ءامَنتُ} [يس: 25].
وعلى الأول: فقوله تعالى: {قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ} يكون بعد موته والله أخبر بقوله.
وعلى الثاني: قال ذلك في حياته وكأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به وعلمه، فقال: يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت وفي معنى قوله تعالى: {قِيلَ} وجهان كما أن في وقت ذلك وجهان:
أحدهما: قيل من القول.
والثاني: ادخل الجنة، وهذا كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن} [يس: 82] ليس المراد القول في وجه بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ وكذلك في قوله تعالى: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي} [هود: 44] في وجه جعل الأرض بالعة ماءها.
{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}.
وفي قوله تعالى: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} وجوه أحدها: أن ما استفهامية كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف، وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف يقال بم وفيم وعم ولم وثانيها: خبرية كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي وثالثها: مصدرية، كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، والوجهان الآخران هما المختاران.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى: {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] والرجل كان من المؤمنين الصلحاء، والمكرم على ضد المهان، والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني الله الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه. اهـ.